لقد أصبح خروج المرأة إلى ميدان العمل ضرورة ملحة من ضروريات الحياة
المعاصرة و متطلباتها المتزايدة وتماشيا مع التحولات الاقتصادية التي
يشهدها العالم إلا أن هذه المرأة نفسها تُقابل بالعديد من أشكال التمييز
خاصة مع هيمنة الثقافة الذكورية في معظم البلاد العربية. و التحرش الجنسي
بالمرأة لم يعد أمرا نادر الحدوث بل أصبح متفشيا بدرجة كبيرة إلى أن أصبحت
حوادث التحرش أمرا عاديا في الصفحات الأولى من الجرائد و المجلات العربية.
وإذا أردنا تعريف التحرش نستطيع أن نقول أنه سلوك تطفلي يحمل مضمونا
جنسيا تتعرض إليه الضحية من قبل شخص تعرفه أو لا تعرفه و تتفاوت درجاته من
مجرد النظرة الفاحصة إلى الملامسة المقصودة مرورا بالألفاظ ذات الدلالات
الجنسية لذلك نستطيع أن نميز بين:
-تحرش شفوي: وهو الأكثر انتشارا و يتضمن ملاحظات و تعليقات جنسية أو طرح أسئلة ذات مضمون جنسي مباشر أو غير مباشر
-تحرش غير شفوي: و يتضمن النظرات المتفحصة و الموحية أو التلميحات الجسدية بالإشارات
- تحرش مادي: إنطلاقا من اللمس أو التحسس و وصولا إلى الإعتداء
وفي تقرير لمنظمة العمل الدولية صدر عام 2008 جاءت الأرقام التالية: أكثر من 30% من النساء العاملات في النمسا تعرضن لتحرشات جنسية و في
الدنمارك 15% و في فرنسا 21% و في النرويج 41% , و أفاد التقرير أن هذه
الأرقام لا تعتبر الحجم الحقيقي لهذه الظاهرة. أما على المستوى العربي فقد
أثبتت بعض الدراسات المستقلة أن 68% من النساء العاملات من عينة تشمل 100
امرأة عاملة في المصالح الحكومية في مصر قد تعرضن للتحرش الجنسي سواء
بالقول أو الفعل من جانب زملاء أو رؤساء العمل. كما أشارت دراسة أخرى أيضا
أن 16% من النساء العاملات في السعودية تعرضن إلى تحرش جنسي من قبل
مديريهم في العمل. و أشارت هذه الدراسات أن التحرش الجنسي في موقع العمل
ينطلق عادة من الغزل المفرط و وصف مفاتن المرأة و الإلحاح في طلب اللقاء
بهدف جر المرأة إلى علاقة عاطفية و هو ما يعتبر شكلا من أشكال العنف
النفسي ضد المرأة منطلقه تلك النظرة الدونية و النمطية التي تخول للرجل
التفكير في المرأة كوسيلة إمتاع و بأي طريقة متاحة.
وفي خضم هذا الواقع المرير للمرأة العاملة تبرز المشكلة الأعظم ألا
وهي الصمت. فالضحية غالبا ما تعيش فترات اضطراب و ارتباك ذهني على اعتبار
أن التحرش لم يصل إلى مستوى الإعتداء الملموس مما يضعها في دوامة الشك و
عدم التأكد و الخوف من اللجوء إلى الشكوى خاصة أن القانون لا ينصف بمجرد
الشكوك بل يتطلب إقامة الدليل فيحاط الأمر بالكتمان و لا يتعدى حدود
الوشوشة و الغرف المغلقة وينجو الفاعل بفعلته بل يتمادى إلى أن يصل إلى
حدود الفعل المادي ألا وهو الإغتصاب وقد أثبتت الدراسات فعلا أن 62% من
الضحايا لم يبدين أية ردة فعل تذكر. ولعل الدافع الأول لصمت المرأة هو نظرة
المجتمع إلى المرأة بصفة عامة على أنها المحرض على التحرش لهيأتها أو
طريقة تعاملها أو حتى لمجرد كونها أنثى و كأن الرجل لا يد له في الأمر
برمته لذلك فهي تفضل التزام الصمت و لا تجد الجرأة الكافية خوف الفضيحة و
تشويه السمعة. و تعتبر الحاجة الماسة إلى العمل أيضا سببا رئيسيا من أسباب
الصمت فالضحية تخاف أن تفقد عملها إذا أبلغت عن الإساءة من قبل رئيسها في
العمل مما يؤدي بها إلى الشعور بالاهانة و الذل و العجز عن المقاومة أو رد
الفعل. و ينبع الصمت أيضا من الشعور بأن الجاني لن يلقى عقابا لفعلته أو
حتى مجرد ردع نظرا لكونها غير قادرة على تقديم الإثباتات اللازمة فتبقى
رهينة الشعور بالعجز و الإضطهاد و ما يترتب عليه من مخلفات نفسية جسيمة
كالأرق و التوتر و العصبية الزائدة حتى خارج نطاق العمل.